فصل: تفسير الآية رقم (232):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (231):

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}
البلوغ إلى الشيء: معناه الحقيقي الوصول إليه، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلا مجازاً لعلاقة مع قرينة كما هنا، فإنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي؛ لأن المرأة إذاً قد بلغت آخر جزء من مدّة العدّة، وجاوزته إلى الجزء الذي هو الأجل للانقضاء، فقد خرجت من العدّة، ولم يبق للزوج عليها سبيل. قال القرطبي في تفسيره: إن معنى: {بَلَغْنَ} هنا قاربن بإجماع العلماء. قال: ولأن المعنى يضطر إلى ذلك؛ لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، والإمساك بمعروف: هو القيام بحقوق الزوجية. أي: إذا طلقتم النساء، فقاربن آخر العدّة، فلا تضاروهنّ بالمراجعة من غير قصد؛ لاستمرار الزوجية، واستدامتها، بل اختاروا أحد أمرين: إما الإمساك بمعروف من غير قصد لضرار، أو التسريح بإحسان: أي: تركها حتى تنقضي عدّتها من غير مراجعة ضرار، ولا تمسكوهن ضراراً، كما كانت تفعل الجاهلية من طلاق المرأة حتى يقرب انقضاء عدّتها، ثم مراجعتها لا عن حاجة، ولا لمحبة، ولكن لقصد تطويل العدّة، وتوسيع مدّة الانتظار {ضِرَارًا} لقصد الاعتداء منكم عليهن والظلم لهنّ {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} لأنه عرضها لعقاب الله وسخطه. قال الزجاج: يعني عرّض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزوا} أي: لا تأخذوا أحكام الله على طريقة الهزؤ، فإنها جدّ كلها، فمن هزل فيها فقد لزمته نهاهم سبحانه أن يفعلوا كما كانت الجاهلية تفعل، فإنه كان يطلق الرجل منهم، أو يعتق، أو يتزوج، ويقول: كنت لاعباً. قال القرطبي، ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلاً أن الطلاق يلزمه. قوله: {هُزُوًا واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} أي: النعمة التي صرتم فيها بالإسلام، وشرائعه بعد أن كنتم في جاهلية جهلاء، وظلمات بعضها فوق بعض، والكتاب: هو القرآن. والحكمة قال المفسرون: هي السنة التي سنها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي: يخوفكم بما أنزل عليكم، وأفرد الكتاب، والحكمة بالذكر مع دخولهما في النعمة دخولاً أولياً، تنبيهاً على خطرهما، وعظم شأنهما.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدّتها، ثم يطلقها، فيفعل بها ذلك يضارّها، ويعطلها، فأنزل الله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} الآية.
وأخرج نحوه مالك، وابن جرير، وابن المنذر، عن ثور بن يزيد.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي، عن الحسن في قوله: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ} قال: هو الرجل يطلق امرأته، فإذا أرادت أن تنقضي عدّتها أشهد على رجعتها، يريد أن يطوّل عليها.
وأخرج ابن ماجه، وابن جرير، والبيهقي، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يلعبون بحدود الله يقول: قد طلقتك، قد راجعتك، قد طلقتك، قد راجعتك، ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدّتها» وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عبادة بن الصامت قال: كان الرجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للرجل: زوَّجتك ابنتي، ثم يقول: كنت لاعباً، ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعباً، فأنزل الله سبحانه: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزواً} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من قالهنّ لاعباً، أو غير لاعب، فهن جائزات عليه: الطلاق، والنكاح، والعتاق».
وأخرج ابن مردويه، عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق، ثم يقول: لعبت، ويعتق، ثم يقول لعبت، فأنزل الله: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزواً} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من طلق، أو أعتق، فقال لعبت، فليس قوله بشيء، يقع عليه، فيلزمه».
وأخرج ابن مردويه أيضاً، عن ابن عباس قال: طلق رجل امرأته، وهو يلعب لا يريد الطلاق، فأنزل الله: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزواً} فألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن مرفوعاً نحو حديث عبادة.
وأخرج أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث جدّهنَّ جِدٌّ، وهزلهنّ جدّ: النكاح، والطلاق، والرجعة».

.تفسير الآية رقم (232):

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}
الخطاب في هذه الآية بقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ} وبقوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} إما أن يكون للأزواج، ويكون معنى العَضْل منهم أن يمنعوهنّ من أن يتزوجن مَنْ أردْن من الأزواج بعد انقضاء عدّتهنّ لحمية الجاهلية، كما يقع كثيراً من الخلفاء، والسلاطين غيرة على من كنّ تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم؛ لأنهم لما نالوه من رياسة الدنيا، وما صاروا فيه من النخوة، والكبرياء، يتخيلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم إلا من عصمه الله منهم بالورع، والتواضع؛ وإما أن يكون الخطاب للأولياء، ويكون معنى إسناد الطلاق إليهم أنهم سبب له لكونهم المزوّجين للنساء المطلقات من الأزواج المطلقين لهنّ. وبلوغ الأجل المذكور هنا المراد به: المعنى الحقيقي، أي: نهايته لا كما سبق في الآية الأولى. والعضل: الحبس.
وحكى الخليل دجاجة معضلة قد احتبس بيضها. وقيل: العضل: التضييق والمنع، وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال أردت أمراً، فعضلتني عنه، أي: منعتني، وضيقت عليّ، وأعضل الأمر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل.
وقال الأزهري: أصل العضل من قولهم عضلت الناقة: إذا نشب ولدها، فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة: نشب بيضها، وكل مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشافعي رحمه الله:
إذا المْعضِلاتُ تصدّين لي ** كشفتُ حَقَائِقها بالنظر

ويقال أعضل الأمر: إذا اشتد، وداء عُضال. أي: شديد عسير البرء أعيا الأطباء، وعضل فلان أيمِّه: أي: منعها يعضلها بالضم، والكسر لغتان. قوله: {أَن يَنكِحْنَ} أي: من أن ينكحن، فمحله الجر عند الخليل، والنصب عند سيبويه، والفراء، وقيل: هو بدل اشتمال من الضمير المنصوب في قوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}. وقوله: {أزواجهن} إن أريد به المطلقون لهنّ، فهو مجاز باعتبار ما كان، وإن أريد به من يردْن أن يتزوّجنه، فهو مجاز باعتبار ما سيكون. وقوله: {ذلك} إشارة إلى ما فصل من الأحكام، وإنما أفرد مع كون المذكور قبله جمعاً حملاً على معنى الجمع بتأويله بالفريق، ونحوه. وقوله: {ذلكم} محمول على لفظ الجمع، خالف سبحانه ما بين الإشارتين افتناناً. وقوله: {أزكى} أي: أنمى وأنفع: {وَأَطْهَرُ} من الأدناس {والله يَعْلَمُ} ما لكم فيه الصلاح {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذلك.
وقد أخرج البخاري، وأهل السنن، وغيرهم عن مَعْقِل بن يسار؛ قال: كانت لي أخت، فأتاني ابن عم، فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فَهَويِهَا، وهويتَه، ثم خطبها مع الخُطَّاب فقلت له: يا لكع أكرمتك بها، وزوّجتكها، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} الآية، قال: ففيَّ نزلت هذه الآية، فكفَّرْتُ عن يميني، وأنكحتها إياه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة، أو طلقتين، فتنقضي عدّتها، ثم يبدو له تزويجها، وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فمنعها وليها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن السدّي قال: نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله الأنصاري، كانت له ابنة عم، فطلقها زوجها تطليقة، وانقضت عدّتها، فأراد مراجعتها فأبى جابر، فقال: طلقت بنت عمنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية؟ وكانت المرأة تريد زوجها، فأنزل الله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل: {إِذَا تراضوا بَيْنَهُم بالمعروف} يعني بمهر، وبينة، ونكاح مؤتنف.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنكحوا الأيامى فقال رجل: يا رسول الله ما العلائق بينهم؟ قال: ما تراضى عليه أهلهنّ».
وأخرج ابن المنذر، عن الضحاك قال: {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} قال: الله يعلم من حبّ كل واحد منهما لصاحبه ما لا تعلم أنت أيها الوليّ.

.تفسير الآية رقم (233):

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}
لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق، ذكر الرضاع؛ لأن الزوجين قد يفترقان، وبينهما ولد، ولهذا قيل: إن هذا خاص بالمطلقات. وقيل: هو عام. وقوله: {يُرْضِعْنَ} قيل: هو خبر في معنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه، وقيل: هو خبر على بابه ليس هو في معنى الأمر على حسب ما سلف في قوله: {يَتَرَبَّصْنَ} وقوله: {كَامِلَيْنِ} تأكيد للدلالة على أن هذا التقدير تحقيقي لا تقريبي. وقوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} أي: ذلك لمن أراد أن يتم الرضاعة، وفيه دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتماً، بل هو التمام، ويجوز الاقتصار على ما دونه. وقرأ مجاهد، وابن محيصن: {لمن أراد أن تتم} بفتح التاء، ورفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها. وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة، والجارود ابن أبي سَبْرَة بكسر الراء من الرضاعة، وهي لغة.
وروي عن مجاهد أنه قرأ: {الرضعة} وقرأ ابن عباس: {لمن أراد أن يكمل الرضاعة} قال النحاس: لا يعرف البصريون الرضاعة إلا بفتح الراء.
وحكى الكوفيون جواز الكسر. والآية تدل على وجوب الرضاع على الأم لولدها، وقد حُمِل ذلك على ما إذا لم يقبل الرضيع غيرها.
قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} أي: على الأب الذي يولد له، وآثر هذا اللفظ دون قوله: وعلى الوالد للدلالة على أن الأولاد للآباء لا للأمهات، ولهذا ينسبون إليهم دونهنّ، كأنهنّ إنما ولدن لهم فقط، ذكر معناه في الكشاف، والمراد بالرزق هنا: الطعام الكافي المتعارف به بين الناس، والمراد بالكسوة: ما يتعارفون به أيضاً، وفي ذلك دليل على وجوب ذلك على الآباء للأمهات المرضعات. وهذا في المطلقات، وأما غير المطلقات، فنفقتهنّ، وكسوتهنّ واجبة على الأزواج من غير إرضاعهنّ لأولادهنّ. وقوله: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} هو: تقييد لقوله: {بالمعروف} أي: هذه النفقة، والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه، ويعجز عنه، وقيل: المراد: لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف، بل يراعي القصد.
قوله: {لاَ تُضَارَّ} قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وجماعة ورواه أبان عن عاصم بالرفع على الخبر. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في المشهور عنه: {تضار} بفتح الراء المشدّدة على النهي، وأصله: لا تضار، أو لا تضارر على البناء للفاعل، أو المفعول: أي: لا تضارر الأب بسبب الولد بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق، والكسوة، أو بأن تفرط في حفظ الولد، والقيام بما يحتاج إليه، ولا تضارر من زوجها بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه، أو ينتزع ولدها منها بلا سبب، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين.
وقرأ عمر بن الخطاب: {لا تضارر} على الأصل بفتح الراء الأولى؛ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {لا تضار} بإسكان الراء، وتخفيفها، وروى عنه الإسكان، والتشديد. وقرأ الحسن، وابن عباس: {لا تضارر} بكسر الراء الأولى؛ ويجوز أن تكون الباء في قوله: بولده، صلة لقوله تضارّ على أنه بمعنى تضر. أي: لا تضرّ والدة بولدها، فتسيء تربيته، أو تقصر في غذائه، وأضيف الولد تارة إلى الأب، وتارة إلى الأم، لأن كل واحد منهما يستحق أن ينسب إليه مع ما في ذلك من الاستعطاف، وهذه الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقريرها. أي: لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه، فلا تضاره بسبب ولده.
قوله: {وَعَلَى الوارث} هو: معطوف على قوله: {وَعلَى المولود لَهُ} وما بينهما تفسير للمعروف، أو تعليل له معترض بين المعطوف، والمعطوف عليه. واختلف أهل العلم في معنى قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} فقيل: هو وارث الصبي: أي: إذا مات المولود له كان على وارث هذا الصبي المولود إرضاعه كما كان يلزم أباه ذلك، قاله عمر بن الخطاب، وقتادة، والسدّي، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة، وابن أبي ليلى على خلاف بينهم، هل يكون الوجوب على من يأخذ نصيباً من الميراث، أو على الذكور فقط، أو على كل ذي رحم له، وإن لم يكن، وارثاً منه، وقيل: المراد بالوارث: وارث الأب تجب عليه نفقة المرضعة، وكسوتها بالمعروف، قاله الضحاك.
وقال مالك في تفسير هذه الآية بمثل ما قاله الضحاك، ولكنه قال: إنها منسوخة، وإنها لا تلزم الرجل نفقة أخ، ولا ذي قرابة، ولا ذي رحم منه، وشرطه الضحاك بأن لا يكون للصبيّ مال، فإن كان له مال أخذت أجرة رضاعه من ماله. وقيل: المراد: بالوارث المذكور في الآية هو: الصبي نفسه. أي: عليه من ماله إرضاع نفسه إذا مات أبوه، وورث من ماله، قاله قبيصة بن ذؤيب، وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز.
وروي عن الشافعي، وقيل: هو الباقي من والدي المولود بعد موت الآخر منهما، فإذا مات الأب كان على الأم كفاية الطفل، إذا لم يكن له مال، قاله سفيان الثوري،
وقيل: إن معنى قوله تعالى: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} أي: وارث المرضعة يجب عليه أن يصنع بالمولود كما كانت الأم تصنعه به من الرضاع، والخدمة، والتربية. وقيل: إن معنى قوله تعالى: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} أنه يحرم عليه الإضرار بالأم كما يحرم على الأب، وبه قالت طائفة من أهل العلم، قالوا: وهذا هو الأصل، فمن ادّعى أنه يرجع فيه العطف إلى جميع ما تقدم، فعليه الدليل.
قال القرطبي: وهو الصحيح، إذ لو أراد الجميع الذي هو: الرضاع، والإنفاق، وعدم الضرر يقال: وعلى الوارث مثل هؤلاء، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارّة، وعلى ذلك تأوّله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد الوهاب. قال ابن عطية، وقال مالك، وجميع أصحابه، والشعبي، والزهري، والضحاك، وجماعة من العلماء: المراد بقوله: {مثل ذلك} ألاّ تضارّ. وأما الرزق، والكسوة، فلا يجب شيء منه.
وحكى ابن القاسم، عن مالك، مثل ما قدمنا عنه، في تفسير هذه الآية، ودعوى النسخ. ولا يخفى عليك ضعف ما ذهبت إليه هذه الطائفة، فإن ما خصصوا به معنى قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} من ذلك المعنى. أي: عدم الإضرار بالمرضعة قد أفاده قوله: {لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا} لصدق ذلك على كل مضارّة ترد عليها من المولود له، أو غيره. وأما قول القرطبي: لو أراد الجميع لقال مثل هؤلاء، فلا يخفى ما فيه من الضعف البيّن، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل المذكور، أو نحوه. وأما ما ذهب إليه أهل القول الأوّل من أن المراد بالوارث: وارث الصبيّ، فيقال عليه إن لم يكن وارثاً حقيقة مع وجود الصبيّ حياً، بل هو وارث مجازاً باعتبار ما يئول إليه. وأما ما ذهب إليه أهل القول الثاني، فهو وإن كان فيه حمل الوارث على معناه الحقيقي، لكن في إيجاب النفقة عليه مع غنى الصبيّ ما فيه، ولهذا قيده القائل به بأن يكون الصبي فقيراً، ووجه الاختلاف في تفسير الوارث ما تقدّم من ذكر الوالدات، والمولود له والولد، فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم.
قوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} الضمير للوالدين. والفصال: الفطام عن الرضاع. أي: التفريق بين الصبيّ، والثدي، ومنه سمي الفصيل؛ لأنه مفصول عن أمه. وقوله: {عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا} أي: صادراً عن تراض من الأبوين إذا كان الفصال قبل الحولين: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} في ذلك الفصال. سبحانه لما بين أن مدّة الرضاع حولين كاملين قيد ذلك بقوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} وظاهره أن الأب وحده إذا أراد أن يفصل الصبيّ قبل الحولين كان ذلك جائزاً له، وهنا اعتبر سبحانه تراضي الأبوين وتشاورهما فلابد من الجمع بين الأمرين: بأن يقال إن الإرادة المذكورة في قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} لابد أن تكون منهما، أو يقال: إن تلك الإرادة إذا لم يكن الأبوان للصبيّ حيين بأن كان الموجود أحدها، أو كانت المرضعة للصبي ظئراً غير أمه. والتشاور: استخراج الرأي يقال: شُرْتُ العسل: استخرجته، وشُرْتُ الدابة: أجريتها لاستخراج جريها، فلابد لأحد الأبوين إذا أراد فصال الرضيع أن يراضي الآخر، ويشاوره حتى يحصل الاتفاق بينهما على ذلك.
قوله: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم} قال الزجاج: التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة. وعن سيبويه أنه حذف اللام؛ لأنه يتعدّى إلى مفعولين، والمفعول الأول محذوف، والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم {إذا سلمتم ما آتيتم} بالمدّ، أي: أعطيتم، وهي قراءة الجماعة إلا ابن كثير، فإنه قرأ بالقصر. أي: فعلتم، ومنه قول زهير:
وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرِ أتَوْه فَإنَّما ** توارثَه آباءُ آبائهم قَبْلُ

والمعنى أنه لا بأس عليكم أن تسترضعوا أولادكم غير أمهاتهم إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهنّ بحساب ما قد أرضعن لكم، إلى وقت إرادة الاسترضاع، قاله سفيان الثوري، ومجاهد.
وقال قتادة، والزهري: إن معنى الآية: إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع أي: سلم كل واحد من الأبوين ورضي، وكان ذلك عن اتفاق منهما، وقصد خير وإرادة معروف من الأمر، وعلى هذا، فيكون قوله: {سَلَّمْتُم} عاماً للرجال، والنساء تغليباً، وعلى القول الأول الخطاب للرجال فقط، وقيل: المعنى: إذا سلمتم لمن أردتم استرضاعها أجرها، فيكون المعنى إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه. أي: إعطاءه إلى المرضعات بالمعروف، أي: بما يتعارفه الناس من أجر المرضعات من دون مماطلة لهنّ، أو حط بعض ما هو لهنّ من ذلك، فإن عدم توفير أجرهنّ يبعثهنّ على التساهل بأمر الصبيّ، والتفريط في شأنه.
وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن مجاهد في قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن} قال: المطلقات {حَوْلَيْنِ} قال: سنتين {لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا} يقول: لا تأبى أن ترضعه ضراراً لتشق على أبيه {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} يقول: ولا يضارّ الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها بذلك {وَعَلَى الوارث} قال: يعني الوليّ من كان {مِثْلُ ذلك} قال: النفقة بالمعروف، وكفالته، ورضاعه إن لم يكن للمولود مال، وأن لا تضارّ أمه {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} قال: غير مسيئين في ظلم أنفسهما، ولا إلى صبيهما، فلا جناح عليهما {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم} قال: خيفة الضيعة على الصبيّ {فَلاَ جُنَاحَ} قال: حساب ما أرضع به الصبيّ.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية أنه قال: المراد بقوله: {إذا سلمتم ما آتيتم} هي في الرجل يطلق امرأته، وله منها ولد.
وقال في قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ} قال: ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها.
وأخرج أبو داود في ناسخه، عن زيد بن أسلم في قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن} قال: إنها المرأة تطلق، أو يموت عنها زوجها.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في التي تضع لستة أشهر؛ أنها ترضع حولين كاملين، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً لتمام ثلاثين شهراً، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهراً، ثم تلا: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} قال: على قدر الميسرة.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم في قوله: {لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} ليس لها أن تلقي ولدها عليه، ولا يجد من يرضعه، وليس له أن يضارها، فينتزع منها ولدها، وهي تحب أن ترضعه {وَعَلَى الوارث} قال: هو وليّ الميت.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء، وإبراهيم، والشعبي في قوله: {وَعَلَى الوارث} قال: هو وارث الصبي ينفق عليه.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة نحوه، وزاد: إذا كان المولود لا مال له، مثل الذي على والده من أجر الرضاع.
وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن نحوه.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن ابن سيرين نحوه أيضاً.
وأخرج ابن جرير، عن قبيصة بن ذؤيب في قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} قال: هو الصبيّ.
وأخرج وكيع عن عبد الله بن مُغَفَّل نحوه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} قال: لا يضارّ.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} قال: الفطام.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد؛ قال: التشاور فيما دون الحولين ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى.
وأخرجوا أيضاً عن عطاء في قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم} قال: أمه أو غيرها {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم} قال: إذا سلمت لها أجرها {مَّا ءاتَيْتُم} ما أعطيتم.